راشد بن حميد الجهوري يكتب: رحلة إلى ردهة الفصاحة
عيون الفصاحة بين الرصافة والجسر، وجسر العربية يمتد في أعماق الزمن ضاربا بأوتاده في بحبوحة البيان الجاهلي، ومتنقلا عبر عصوره بالمنظوم منه والمنثور، وأنت متى ما وقفت على شرفة من ذلك الجسر الممتد، في الليل أوالنهار، في العشي أو الأسحار، رأيت من تحف الجمال في الكلام ما تكاد تنشده الدنيا طربا، ويردده صداها عجبا، وعلى حافتي النهر أزاهير الكناية ورياحين المجاز يداعب أغصانها نسيم الوصف ودغدغة الشعور، حتى أن ربيعها من الحسن كاد أن يتكلما.
وسارت ركائب المتذوقين لفنون العربية وآدابها متتبعة لقوافي الشعر ومقتفية لأسجاع النثر، واهتزت قلوبهم شوقا إلى تلك الردهة في قصر الضاد المنيف، ولسان الحال: “وكلهم بأليم الشوق قد باحا”، وتعب أحدهم بسبب الشيخوخة فردد قول الشاعر:
فصرت الآن منحنيا كأني
أفتش في التراب على شبابي
وغالب النوم عيني الآخر فقال:
وخذا النوم من عيوني إني
قد خلعت الكرى على العشاق
ووصلت القافلة أخيرا إلى عتبة باب القصر فردد حاديها:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر
فأجاب حارسها وحامهيا:
فإن نحن التقينا قبل موت
شفينا النفس من مضض العتاب
وهمس حكيم القافلة في أسماع قومه:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
ففهم عشاق الفصاحة معنى كلامه، فأناخوا ركابهم وطنبوا خيامهم استعدادا لدخول ردهة قصر الضاد المنيف.
طلع الصباح فأطفئ القنديلا، والشعر يحفظ ما أودى الزمان به، هكذا كان لسان عشاق العربية، وهم يسيرون نحو عتبة باب الردهة، فنطق زاهد الردهة واعظا القوم:
أرى بقلبي دنياي وآخرتي
والقلب يدرك ما لا يدرك البصر
ودخلوا ثم تفرقوا في جنبات الردهة، واستهانوا بما لاقوا من صعاب في طريقهم للوصول إلى الردهة الغنية بكنوز اللغة العربية وتراثها، حتى ردد أحدهم قول الشاعر:
لولا التنقل ما ارتقت
درر البحور إلى النحور
وبعد برهة من التأمل والتعجب نثر الراوي على أسماعهم من شعر النحاة ما أطرب مسامعهم:
عذبت قلبي بهجر منك متصل
يا من هواه ضمير غير منفصل
ما زال من غير توكيد صدودك لي
فما عدولك من عطف إلي بدل
وهكذا كان أدباء العربية على مر عصورهم يلتقطون المعاني الجميلة فتختلط بمشاعرهم فيجدون لغتهم تتسع وتتسع بألفاظها وأساليبها لتكسي معانيهم ومشاعرهم أبهى الحلل.
إن من حكم الزمان قولهم: لا يغرد إلا البلبل الحر المحلق في الفضاء، وبلابل الدوح عادت تطربنا بشوارد المتنبي التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وبحماسات أبي تمام التي كانت أصدق أنباء من الكتب، واستمر التغريد حتى بانت سعاد، ثم صمتت قليلا تستمع إلى خطب قس بن ساعدة البليغة، ثم انطلقت تشدوا مرة أخرى بشعر حسان بن ثابت (رضي الله عنه): عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
واستمرت تلك الألحان العذبة تظهر براعة اللغة وتفننها في عرض الأغراض وما ضمت المشاعر من تقلبات، وحل الظلام بتلك الردهة الرائعة، فكان لسان حال القوم: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي…
وأخيرا: ففي كل صباح يشرق على مفاخر العربية وآدابها سيحدثك أن عيون الفصاحة جلبن الهوى بلغة الضاد من حيث أدري ولا أدري.
الكاتب: راشد بن حميد الجهوري
@ra_aljahwari
بارك الله فيك استاذ راشد لغتك الجميلة تنساب كماء رقراق تعيد الحياة في الروح رقة وعذوبة.. وكأنك بحار تخضع له مراكب الامواج.. واصل التجديف وأبحر موفقا مسددا