السبت , 1 أبريل 2023
من أوسلو: محمد عبدالمجيد: رؤية جديدة لأزمة الخليج.. ماذا نفعل مع قطر؟
محمد عبدالمجيد

من أوسلو: محمد عبدالمجيد: حكايتي مع الكويت والعراق!

الجزء الثالث والأخير من الحكاية .. للإطلاع على الجزء الأول اضغط هنا للأطلاع على الجزء الثاني اضغط هنا

 

وتعرفت في الكويت على الشيخ فيصل الحمود المالك الصباح وهو أول من قام بتقديمي إلى سمو الشيخ سعد العبد الله( رحمه الله). الشيخ فيصل صاحب نشاط عجيب كأنه كتلة مشعة من الحركة الدائبة، والترحيب، والشرح، وقاريء من الدرجة الأولى، وإذا تولى منصباً ملأه دبلوماسية وإعلاماً وعلاقات إجتماعية.
 
في حضوره أضمن نجاح لقائي بسمو الشيخ سعد العبد الله. في إحدى المرات كان سمو الشيخ سعد العبد الله في الديوانية، وعرفت أنه لن يكون لي لقاء خاص بسموه. جلست مع العشرات من الزائرين، وقمت متوجهاً إلى الباب الخارجي، لكن الشيخ فيصل أشار لي بالعودة. عدت لأجد سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء يطلب مني الجلوس بجانب سموه. قلت لا شك أن سموكم في حالة إرهاق بعد مشاورات تشكيل الحكومة. همس في أذني قائلا: لقد قمت فعلا بتشكيلها ولم أعلنها بعد، وأنت أول من يعرف الآن!
كنت سعيدا وفخوراً بهذه الثقة.
قمت بزيارة الشيخ فيصل عندما أصبح سفيراً لدولة الكويت في سلطنة عُمان. وجدت السفارة قد تحولت إلى كويت صغيرة داخل مسقط، ورحب بي كعادته ترحيباً حاراً. كان العُمانيون يعتبرونه سفيراً للكويت ولعُمان في آن واحد. يتحدث وينصت ويتصل بكل وسائل الإعلام العُمانية، وفي وقت وجيز كان قد تعرف على كل الشخصيات المؤثرة في صناعة القرار العُماني. كان السلطان قابوس يعتبره من أهل البلد قياساً إلى أعماله في خدمة الضيف والمضيف.
وألتقيته في العاصمة البريطانية، وعشية يوم مغادرتي تلقيت مكالمة هاتفية من الصديق خالد الحجرف يبلغني فيه بأن سموه ينتظرني صباح الغد في مقر إقامته بلندن.
كنت سعيداً عندما رأيت وجه سموه مشرقاً مما يدل على أن صحته تحسنت. بدلة أنيقة وربطة عنق صفراء.
قال لي، رحمه الله، لقد سمعت من الأخ السفير أنك كنت في السفارة، وحرصت على أن أقابلك قبل عودتك إلى أوسلو. شعرت وقتها بأن الكويت كلها تجلس معي. قلت لسموه بأنني أرى إشراقة صحة وشفاء، فرد قائلا: هل تعرف أنني قرأت كتابك الثاني ( مداخلات ممنوعة ) في ليلة واحدة؟ نحن في الكويت نحمل لك كل المحبة.
عدت إلى الفندق وأنا أكاد أطير فرحاً في ضبابها.
كان الشيخ فيصل المالك الحمود الصباح أبا العروسة في احتفالات الكويت بالعيد العاشر للتحرير، وإذا كان لي أن أنسب نجاح الاحتفال لشخصية كويتية فلن أتردد في وصف الشيخ السفير فيصل المالك الحمود الصباح بأنه المضيف الأول والمنظم الرائع لها.
عندما أصبح سفيراً للكويت في المملكة الأردنية الهاشمية حزن العُمانيون لغيابه وفرح الأردنيون لوجوده بينهم.
 
أول مرة قمت فيها بزيارة بغداد كانت في 12 سبتمبر 1989، وكنت في الدوحة واتصلت بصلاح المختار مدير الإعلام الخارجي الذي طلب مني القيام بزيارتهم فموقفي وكتاباتي خلال الحرب العراقية/الإيرانية كان موقفاً عروبياً. وصلت إلى الكويت قادماً من دولة قطر. اتصلت مرة أخرى فطلب مني صلاح المختار أن أذهب إلى السفارة العراقية في الكويت للحصول على تأشيرة الدخول.
رفض حامد الملا في البداية وتعلل بأن التأشيرة ستأخذ وقتاً طويلا. لم أجد طريقا أقصر من الكذب شبه الأبيض وقلت له بأنني قد أقوم بإجراء حديث مع الرئيس صدام حسين!
تخشب الرجل، وكادت مفاصله تنفصل وتتناثر في مكتبه، ثم طلب مني الانتظار عدة دقائق. بعد أقل من نصف ساعة كانت التأشيرة مختومة في جواز سفري النرويجي، واصطحبني إلى الباب وودعني كأنني سأكتب تقريرا إيجابيا عنه لقائده المهيب.
اتصلت بالصديق العزيز الأستاذ رضا الفيلي، رحمه الله، وأبلغته أنني ساسافر للمرة الأولى إلى بغداد، فنصحني أن أترك كل متعلقاتي في الفندق، وقال لي: أنت تحمل دائما منشورات وممنوعات، فلا رقابة في الكويت، أما العراق فأنت لا تعرف النظام فيه.
هبطت الطائرة في مطار صدام الدولي، ففي العراق كل شيء يحمل اسمه، وكل صورة كبيره من نصيبه، وكل عراقي لا يسير خطوتين دون أن تصطدم عيناه بمجسم صدام، فهو في اليقظة والمنام.
استقبلني صلاح المختار مدير الإعلام الخارجي استقبالا دافئاً، ورحب بي، وقضينا أكثر من ساعتين نتحدث في كل الأمور. قال لي بأن كل حرف أخطه في ( طائر الشمال ) في النرويج يعلمه فور طباعته. وأبدى إعجابه الشديد بكتاباتي ولكن له تحفظ على تأييدي لما أطلقت عليه ( حدود كويتية آمنة) مع العراق، وتحفظ آخر عن مقالي المعنون ب ( موقف عراقي مؤسف ) عن دعم صدام لميشيل عون.
نظر إليَّ متفحصاً ردّ فعلي عندما قال: ومع ذلك فأنت لدينا آمن رغم كتاباتك.
كان الحديث عن حدود كويتية آمنة يعني وراء الشمس لأي إعلامي، أي غضب بعثي لا يزول إلا بزوال صاحبه.
صباح اليوم التالي قيل لي بأن هناك 250 صحفياً جاءوا لتغطية الانتخابات في المنطقة الكردية، وقد طلب وزير الإعلام لطيف نصيف الجاسم أن يلتقي مع صحفي واحد فقط، وكنته!
في صباح اليوم التالي ( 13 سبتمبر 1989) استقبلني وزير الإعلام لطيف نصيف الجاسم وتم تسجيل اللقاء تلفزيونيا ولا أعرف إن كان قد تم بثه أم لا!
بعد اللقاء كنت أجلس في المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الإعلام ليجيب على أسئلة الصحفيين الذين جاءوا لتغطية الانتخابات الكردية.
في بغداد عليك أن تراقب لسانك كلما ارتفع لحلقك، وأن تنتقي لغتك ومفرداتك فاستخبارات صدام لا تمزح ولكنها تمسح، وأسنانها قد تتحول فجأة إلى أنياب، وأنت مُراقـَـب في غرفتك وطريقك وهاتفك ولو استطاعوا التسلل إلى أحلامك لكنت عارياً، فكرياً، في أحلامك وكوابيسك!ّ
 
رفعت يدي وسألت الوزير الذي توقع مني سؤالا لطيفا فقد استقبلني منذ أقل من ساعة: لماذا الصحافة العراقية متخلفة مقارنة بنظيرتها المصرية والكويتية؟
علت الدهشة وجهه ولسان حاله يقول: لقد نسيَّ الضيف أنه في بغداد صدام وليس في الكويت الشيخ جابر.
كان ردُّه سرداً مقتضباً عن وطنية وقومية الصحافة العراقية. اقترب مني مراسل مجلة ( كل العرب ) الباريسية التي كان يصدرها ياسر هواري قائلا: حتودينا في داهية، يا أستاذ محمد!
كان صلاح المختار كريما معي وألح أن أطلب منه أي هدية أراها مناسبة، فطلبت منه مجموعة من الكتب التي أقوم أنا باختيارها. وفعلا تجولت في بعض المكتبات، وكتبت قائمة بحوالي 120 كتابا في الأدب والشعر والتاريخ. وبعد عودتي إلى أوسلو تلقيت إشعاراً من سفارة العراق في السويد بأن هناك عدة طرود من بغداد باسمي. شكرت الملحق الثقافي العراقي وطلبت منه إرسالها إلى أوسلو. قام فعلا بإرسال 59 كتاباً، وسرقت السفارة 61 كتاباً!
 
عدت إلى الكويت وإلى نفس الغرفة في فندق الهيلتون كأنني لم أسافر، لكنها بداية تجربة كان فيها الإيجابي والسلبي، فالعاصمة كلها عبارة عن متحف لصور القائد المهيب. وكل الناس تراقب كل الناس. 
شكرني سمو الشيخ جابر المبارك ( وزير الإعلام آنئذٍ) على طرحي هموم الكويت في قلب بغداد، أما سمو الشيخ ناصر فكان تعقيبه على الزيارة بأنني رأيت ما فوق سطح عاصمة البعث، أما العمق، يقصد جمهورية الخوف، فلم أقترب منه!
 
زيارتي الثانية والأخيرة والخاتمة كانت في المؤتمر الشعبي للتضامن مع العراق الذي حضره حوالي 2500 شخصية من القيادات السياسية والإعلامية والأدبية والحزبية.
خليط عجيب من كل الألوان والمقاسات والأفكار والتحزبات، وأكثر من الثلث جاءوا من الكويت.. الجارة الصغيرة والمسالمة والآمنة، وحوالي خمسمئة من مصر.
من السادس إلى العاشر من مايو 1990. جاء صدام حسين ومرَّ على الحاضرين مروراً عشوائياً، فصافح من مدّ يده، ثم جلس على المنصة وطلب من الشاعر أحمد السقاف، رحمه الله، أن يكمل كلمته.
كان التفتيش الأمني رهيباً، حتى أن الحراس طلبوا مني التقاط صورة لمكان فارغ للتأكد أنها كاميرا. جلست أستمع وأراقب وأقوم بتغيير العدسات، وأكبرها كان يرصد أصغر شعيرات وجهه. ولم يقترب مني أحد أو يسألني أو يعترض، فالاستخبارات العراقية صاحبة أساليب الفزع خلف الابتسامة، والتهديد في صورة ضحكة، والوعيد في مصافحة حارة.
في اليوم التالي كتبت ورقة صغيرة باسمي طلباً لالقاء كلمة، ووضعتها أمام الشاعرة الدكتورة سعادة الصباح التي كانت تترأس جلسة ذلك اليوم. كان بجواري أستاذ جامعي مصري ونظر لي بإزدراء وقال: أنت مقيم في النرويج فكيف تعرف ما يحدث في العالم العربي، وكدت أسمع خياله يؤكد أنني لا أعرف القراءة والكتابة باللغة العربية.
 
لم أتوقع أن أن تنادي الدكتورة سعاد الصباح على اسمي لأنني لم أسجل رغبتي في الحديث قبل بدء المؤتمر. قفزت من مكاني متوجهاً ناحية المنصة، فوجدت نفسي أمام المئات من قيادات العالم العربي، كثير منهم يتكلم أو يهمس أو يحرك رأسه أو يلقي التحية على جاره. عدد لا بأس به كان يدخن في الممر المؤدي إلى القاعة. التزمت الصمت دقيقتين أو أقل ثم قلت: كنت أود أن يكون الاخوة الحاضرون أكثر عددا من الواقفين في الخارج، ولكن يشفع لنا أن قلة مستمعة خير من كثرة غير مستمعة.
هنا .. هنا فقط عاد الواقفون في الخارج إلى مقاعدهم، ترى ماذا سيقول هذا المجنون القادم من النرويج!
 
تحدثت عن السلطة والصحفي، وقلت: كم وددت أن يكون بيننا الآن الأخ الرئيس حافظ الأسد ( عدو صدام الأول، طبعاً) فضجت القاعة بالتصفيق. ثم قلت: وكم وددت أن يكون بيننا الآن الأخ العقيد معمر القذافي ( الذي لم يتلق دعوة من صدام )!
بعد إنتهاء كلمتي اقترب مني عدة صحفيين وسألتني إعلامية لبنانية: كيف تجرأت وقلت هذا الكلام؟ هنا اكتشفت أنني كنت متهوراً، وزادت نبضات قلبي، واهتزت عظام ركبتي، فرددت عليها حتى تسمع الأجهزة السرية العراقية صك البراءة ولو كان خارجاً من اللسان فقط! قلت لها: لأنني في العراق وفي عهد صدام حسين فقد تجرأت في كلمتي! كنت أعلم أن كلمة واحدة في غير موضعها تعني أن جسدي سيكون وليمة لدود الأرض في بلاد النهرين. ابتسمت الصحفية وعرفت أنني نجوت بفضل خوفي وليس لشجاعتي.
 
خرجت من القاعة وجرى خلفي شخص. وقفت لأتعرف عليه فقال لي: لقد استمعت إلى كل كلمات المؤتمر منذ بدايته، وأنا طبيب أسنان من المنصورة، وأعترف بأنك كنت الأشجع في بغداد. عدت إلى الفندق على الغداء، واستأذنت ثلاثة ضيوف من الإمارات أن أجلس في المقعد الخالي بجوارهم. قال أحدهم: كنا، قبل حضورك، نتحدث عنك مندهشين مما قلت.
وهنا فهمت أنني تجاوزت كل خطوط جمهورية الرعب.
 
عشية مغادرتي بغداد جاءني في فندق المنصور مليا شخص قدم نفسه على أنه الدكتور كمال ناجي أستاذ في جامعة المستنصرية، وأراد تقديم الشكر لي، ومصاحبتي إلى المطار في فجر اليوم التالي عائداً إلى أوسلو.
طبعا رجل استخبارات من الدرجة الممتازة، ووافقت على مصاحبته لي ( كأنني أستطيع أن أرفض!). في صباح اليوم التالي كان الدكتور المزعوم معنا في المطار لغرض سأعرفه لاحقا.
عدت إلى أوسلو وتنفست هواء الحرية، ثم ذهبت إلى نقابة الصحفيين النرويجيين والتي أنا عضو فيها. قمت بتسليم النيجاتيف للأفلام الستة وفي كل فيلم 36 صورة. بعد يومين ذهبت لتسلم الصور وكانت المفاجأة: سألتني المسؤولة في قسم الطبـع والتحميض: أين التقطت الصور؟ قلت لها: في بغداد! قالت: لقد تم تسليط أشعة دمرت الأفلام الستة، في الحقائب المرســَـلة وفي حقيبة اليد.
لهذا كان كمال ناجي مرافقي إلى مطار صدام الدولي ليتأكد أن المخابرات تؤدي عملها على أكمل وجه، وأن الصور الدقيقة جداً لصدام حسين وهو يتحدث في المؤتمر لا تخرج من جمهورية الرعب قبل موافقة أباطرة الخوف.
 
في يونيو 1987 تم إغلاق المكتبة العالمية بعد خسائر مادية فادحة، ومررت بأيام عصيبة، وفي نفس الشهر افتتحت إذاعة صوت العرب من أوسلو مع صديق عراقي. بعثي حتى النخاع. صدّامي حتى العظم. عفلقي حتى الحلق.
سارت الأمور على ما يرام وكنا نذيع أخبار الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ونقرأ بثاً حياً الصحف العربية، لبنانية وكويتية ومصرية وعراقية وغيرها. كنت حريصا على الحذر، وأن لا يشاهدني أحد وأنا أدخل الاستديو، ومعي سلاح أبيض، وعندما تنتهي ساعتا البث أخرج جرياً كأنني لص هارب بعد ارتكاب جريمة.
 
ولم نكن نختلف إلا قليلا، فهو مناصر للقضية الفلسطينية ومتعاطف مع الكويت ومعبوده صدام حسين. وأنا لم أكن بعثياً أو إسلامياً أو منتمياً لحزب أو جماعة أو تنظيم أو جمعية.
في صبيحة يوم الغزو الآثم اتصل بي صديقي العراقي البعثي، الذي تغزل في الكويت امامي واستحسن قراءاتي لأخبار الديرة في إذاعة صوت العرب من أوسلو. سألني عن رأيي، فقلت له بأن المباديء لا تتجزأ، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كالعراقي للكويت، فردَّ عليَّ قائلا بأن جنوبنا قد عاد إلينا، وأنه لن يسمح لي بوقاً للدعاية ضد القائد صدام حسين.
قلت له: ظننت أنك طوال تلك الأعوام تتعاطف مع الكويت، بل إنني كنت سأتوسط لك لدىَ وزارة الإعلام الكويتية لدعوتك هناك، وتكريمك لموقفك في الإذاعة، ثم إن نفقات الإذاعة، لم تكن كبيرة، هي من جيبي. قال لي: ولكن كل المراسلات الداخلية أحتفظ بها.
ظللنا على هذا المنوال شهراً كاملا، لا يغيب احدنا خشية الآخر. كنا نقرأ في الإذاعة النقيضين في نفس البث. هو يمتدح في صدام ويرفع من شأنه ويجمّل ويبرر عدوانه، ويؤيد جيش الأشاوس في الكويت المحتلة. ثم يتراجع إلى الخلف بعيداً عن الميكروفون، وأقرأ أنا لعنات وانتقادات وإدانات ضد شيطان بغداد، وأطالب بالانسحاب الفوري من الكويت.
 
شهر كامل ظن عرب أوسلو أن اثنين من المجانين يديران إذاعة مجنونة.
وجاء يوم 3 سبتمبر 1990 ولم يحضر صديقي، وانتهزت الفرصة لأعلن عن بيان هام سأذيعه بعد دقائق حتى إذا كان صديقي في منزله لا يغادره لئلا يفوته البيان.
وظللت أقرأ، وألعن في طاغية بغداد، وأدافع عن حق الكويتيين في تحرير أرضهم. وقبل انتهاء وقت البرنامج قرأت البيان الذي قطعت فيه كل علاقة بنظام جمهورية الخوف، أعلنت انحيازي التام للكويت، ثم قمت بتمزيق أسلاك الأستديو، وعدت إلى البيت، ونمت نوماً هادئاً.
في صباح الثاني من أغسطس بعد سويعات قليلة من بدء الغزو العراقي اتصلت بوزارة الخارجية الكويتية ولم يرد أحد. ثم أرسلت فاكساً إلى سمو الشيخ ناصر، فسمعت الرنين ثم انقطاعه، وفهمت أن الجنود العراقيين قد تنبهوا إلى جهاز الفاكس.
قبل الغزو بأسبوع ( تقريبا) كنت أشعر أن خـَـطباً جللاً سيحدث، وربما هو عدوان عراقي على الكويت. كتبت رسالة إلى صدام حسين وأرسلتها إلى صلاح المختار طالبا منه تسليمها للرئيس. رسالة صريحة وفيها أمل، ولو كان كاذباً، وفيها خيال مصطنع، وفيها مديح لصدام حسين أعدّد له فيها أفضال الكويت على العراق والعراقيين لعله يتذكر أو يخشى، يتفكر أو يقرعه ضميره، يتراجع قبل أن يخطو الخطوة الأخيرة.
 
بعد يومين( ربما ثلاثة ) اتصل بي القائم بالأعمال العراقي في العاصمة السويدية استوكهولم وحدثني حديثا لطيفا حشوه الأدب والتهذيب والوطنية، وشكرني على الرسالة القومية التي أرسلتها إلى الرئيس القائد(!) ثم ختم حديثه بقوله: تأكد، يا أستاذ محمد، بأننا قوم لا نغدر!
اتصلت فوراً بصديقي الدبلوماسي المستنير وليد الخبيزي، سكرتير أول السفارة الكويتية في لندن يومئذٍ، وحكيت له من أمر المكالمة، فأثني على خوفي على الكويت، وقال لي بأنه سيتصل فوراً بوزارة الخارجية ليطمئنوا أن العراقيين لن يغدروا!
بعد أقل من أربعة أيام كان جيش القسوة والغلظة والغدر يخترق فجر الكويت الهاديء، ويحتل جارته الصغيرة.
كانت الصدمة كبيرة، ووقعها على النفس زلزالا يجعلني أرتاب في كل صور الصداقة والوفاء والمحبة والعهود والمواثيق.
رأيت أسناناً بيضاء لامعة وقد تحولت إلى مخالب، ثم أصبحت أنياباً، ثم غرزتها في الصديق قبل العدو.
لم يعد أمامي غير مجلة ( طائر الشمال ) بعد أن أغلقت المكتبة العالمية وإذاعة صوت العرب من أوسلو، فأصدرت عدداً خاصاً منها وهو عبارة عن رسالة موجهة إلى صدام حسين، كأنها الأمل الأخير في الإنسحاب من الكويت، وبالقطع كانت كلماتي أضغاث أحلام وهي تبرئة ذمة من إثم قد يُحسب عليَّ لاحقاً. ولم يستجب طاغية العراق فقد انتفخ، واقتنع أن العالم العربي سيأتيه صاغراً، جاثياً على ركبتيه، وأن حربه ضد التحالف الدولي والعربي سينتهي بقبولهم شروطه والتي منها أن يلتهم الكويت.
 
لم يكن حزني لأن صديق الإذاعة وقف مع صدام حسين واعتبر أن جنوبهم رجع إليهم، ولكن لأنني اكتشفت خواء العقل العربي، وأن مساحة الكراهية في النفوس تجاه الخليجيين كان ضخمة ومليئة بفقاعات من الأوهام وخزعبلات الإعلام.
لو وقف مع الكويت من عرب أوسلو خمسة أو عشرة لشكرت الله لأن الخير في أمتي إلى يوم القيامة، لكن الصدمة القاتلة والمفجعة كانت أن الكويت الصغيرة التي احتلها الجار الأكبر بحثت عن الأصدقاء في النرويج فلم تعثر عليهم.
 
الوحيد .. الوحيد الذي تعاطف مع الكويت وأبدى دعمه لي كان الصديق داود البصري الذي اختلفنا معا عام 1986 اختلافا جذريا، ومزقنا أقلامنا على صفحات هستيرية، فكان يكتب في ( التيار الجديد ) ضد آل الصباح وأعمدة الحكم برمتها وكل من يتعاطف مع طاغية بغداد، وكنت أرد عليه في ( طائر الشمال ) مفنداً أقواله.
ولكن عندما تصالحنا، وتصافينا في عام 1987 وانتهت الخلافات، وأبدى حنيناً شديدا للكويت التي عاش فيها، وعمل في صحافتها، وتابع همومها، كانت نقطة الالتقاء بيننا، باستثناء أنه ظل على موقفه العدائي والكريه لصدام حسين.
 
وفي يوم الغدر العراقي، وتدنيس أشاوسة صدام للكويت المسالمة كان داود البصري يقف مع الكويت، بل لا أبالغ إذا قلت بأنه ثاني اثنين، فلم يكن غيرنا يتعاطف مع الكويت، من عرب أوسلو.
موقف مشرف لا أنساه للصديق الذي تخاصمنا في رؤيتينا للعراق والكويت حتى أنه قام بالترحيب بالوفد الشعبي الكويتي الذي زار أوسلو في منتصف ديسمبر 1990!
 
صدمتي في النفاق العربي كانت على أشدها، ورأيت البغضاء تتراقص على وجوه وفي عيون عربٍ كانوا يمتدحون في الكويت، ويحلمون بزيارتها، ويثمــّـنون موقفها من الصراع العربي/الصهيوني، ويعرفون أن الطريق إلى القدس يمر عبر الدعم المالي والدبلوماسي والإعلامي الكويتي.
صديق لي كان قبيل الغزو الآثم يحلم ليله ونهاره بزيارة الكويت، والاطلاع على نهضتها الثقافية، فلما اتصل بي ثاني أو ثالث يوم للغزو الهمجي وأبلغته أنني منحاز إلى الكويت حتى تتحرر من لصوص بغداد، رد عليَّ قائلا: أنت تعيش في أوهام، يا صديقي، لأن الكويت اختفت إلى الأبد، والبقاء للدولة القومية الكبرى بقيادة صدام حسين.
هذا نموذج من عشرات .. من مئات المثقفين العرب في الدول الإسكندنافية الذين تأثروا بالفكر الاستعلائي، وظنوا أن دولتهم الكبرى بدأت تطل برأسها عليهم.
كانت المراكز الإسلامية المدعومة خليجياً هي رأس الحربة الموجهة ضد أولياء نعمتهم.
 
في العاشر ( تقريبا ) من ديسمبر 1990 اتصل بي من القاهرة الدكتور بدر جاسم اليعقوب وزير الإعلام ليبلغني نبأ وصول الوفد الشعبي الكويتي المنبثق عن مؤتمر جدة في منتصف أكتوبر، وطلب مني خطة عمل للوفد في النرويج للقاء المسؤولين وصناع القرار وشرح قضية الكويت المحتلة.
شكرته على الثقة وسألته: معالي الوزير، ومن سيأتي من وزارة الإعلام أو الخارجية؟
قال لي: كيف يأتي مسؤول وأنتَ هناك، اليست الكويت بلدك أيضا؟ أنت سفيرنا في النرويج! 
كانت سعادتي خليطاً من الخوف والبهجة، فثلاثة أيام لشرح قضية القرن ليست كافية. وأنا لا أملك أي سلطة أو منصب رسمي!
 
بعد يومين اتصل بي السفير غازي الريس سفير الكويت في بريطانيا ليعيد إبلاغي بالخبر، وقال بأن الوفد في فندق بالعاصمة السويدية. طرحت نفس السؤال، هل ستأتي معهم، سعادة السفير أو يأتي الأستاذ وليد الخبيزي؟ 
قذف في أذني عبر الهاتف كلمة الحب والثقة التي لم أتوقعها. كيف تنتظر مني أن آتي إلى أوسلو وأنت هناك؟ سأضع اسمك ضمن الوفد الشعبي الكويتي رغم أنك تحمل الجنسية النرويجية. 
ولم أنم ليلتها من الفرح على الرغم من أن الاحتلال حزن، والغزو فاجعة.
 
اتصلت فورا بالفندق في استوكهولم ليرد عليّ الأستاذ أنور النوري وزير التربية الأسبق، ووعدته بأنني سأقوم بعمل برنامج على قدر محبتي للكويت وقناعاتي بقرب التحرير.
أول شيء فعلته هو العثور على خريطة قديمة وصحيحة للكويت، وأسرعت إلى المطبعة في أوسلو، وطبعت منها عدة آلاف من النسخ. 
ثم عكفت على وضع برنامج مكثف ليس فيه راحة، من نشرة الأخبار التلفزيونية النرويجية، وجامعة أوسلو، وإحدى المدارس الثانوية، ووزارة النفط، ووزارة الخارجية، والسفارة المصرية وكان السفير الدكتور السيد شلبي متردداً خشية أن يأتيه عتاب من القاهرة، فتوسلت إلى القائم بالأعمال السفير سليمان عواد،( المتحدث باسم رئيس الجمهورية لاحقا) وكان صديقا عزيزاً، وطلبت منه اقناع السفير أن يستقبل الوفد الكويتي في المطار، ويدعو أعضاءه إلى غداء في السفارة.
 
كانت الزيارة ناجحة بكل المعايير، فأعضاء الوفد الخمسة شعلة من النشاط والذكاء والحماس والقدرة الإقناعية، تتشرف بهم الكويت، ويتشرفون أنهم حملوا معهم أطهر قضايا الوطن الصغير.
كانوا يطلقون عليَّ، مزاحاً، اسم ( مستر خمس دقائق ) لأنني كنت أردد أنْ لا راحة في هذه الأيام الثلاثة، ونلهث من مكان إلى آخر، ولم يفقد أحدهم ذرة واحدة من الحماس. كنا نبدأ بتوزيع خريطة الكويت على كل الحاضرين في مدرج الجامعة، في المدرسة الثانوية، في الوزارات و غيرها.
 
كان اليوم الأول تكريما للكويت، فلأول مرة تستضيف نشرة الأخبار شخصية عربية لتتحدث باقتضاب عن سبب الزيارة وكانت لغة الشيخ سلمان دعيج الصباح سليمة وموضوعية ومعلوماتية. كانوا يتناوبون في الأحاديث والخطب واللقاءات، وكأنهم جاءوا ومعهم الكويت.
كانوا، الشيخ سلمان دعيج الصباح والأستاذ فيصل المطوع والأستاذ علي البدر الرشيد والأستاذ أنور النوري والدكتور عبد المحسن المدعج، في حالة عشق مع وطن جريح، في حالة إيمان بالقدرة على التحرير، في حالة التصاق بتراب الوطن على مبعدة آلاف الأميال.
كنت أشاركهم الحزن وأتخيل نفسي مكان أي منهم، وعندما تشرفت بزيارتهم في بيتي ودخل عليهم ابني مجدي، وكان في السادسة من العُمر، وطبع كل واحد منهم قبلة على وجهه أو احتضنه بدفء الأبوة، كنت على يقين أن كل ضيف كريم رأى فيه ابنه سواء كان داخل الكويت أو خارجها.
كانت فلسطين في قلبي وعقلي وكل خلجات نفسي، وشاركت في معظم النشاطات الفلسطينية في العاصمة النرويجية، وكنت أشتعل غضباً ضد من يقترب من الفلسطينيين بكلمة أو انتقاد أو حتى شراء بضائع إسرائيلية، وفي جعبتي عشرات الحكايات، لكن الغزو العراقي للكويت ضرب عليها صفحاً من النسيان المتعمد إثر السخرية من أصحاب أعدل قضية عربية عندما اعتقدوا أن الوقوف مع الكويت يستحق التهكم، فالقائد البطل الذي هدد بحرق نصف إسرائيل سيعيد إليهم النصف الآخر وعليه بوسة!
وهاجمت كثيرا وانتقدت الموقف الفلسطيني والمظاهرات البائسة التي خرجت في الأراضي المحتلة وبيروت وتونس والمغرب والجزائر والأردن والعراق والدول الإسكندنافية بقيادة ملائكة النضال، سابقاً، وهم يضربون بعُرض الحائط كل القيم والمباديء والأعراف، ويبصقون على الكويت .. التي فرشت لهم أرضها وكادوا يستوطنونها بطلب من أهلها، فسفاح بغداد أقرب إليهم من أشقائهم الكويتيين.
 
ثم تلقيت مكالمة هاتفية من فلسطيني يعيش في مدينة قريبة من أوسلو، يتوعدني فيها بالتصفية ( سنقتلك أمام بيتك كالكلاب كما قتلنا السادات لأنك تتعاطف مع الكويتيين الخونة ). وكان هذا التهديد نهاية الفصل الأخير من عشقي لقضية عُمري، النضال الفلسطيني ضد الصهيونية! قطعا ما زلت حتى هذه اللحظة لا أشتري أنا أو أولادي، وإن شاء الله أحفادي، شيئاً مهما صــَــغُر من دولة الاحتلال الإسرائيلي.
كنت مؤمنا بيقين لا يتزحزح أن الكويت على مرمى حجر من التحرر، وأن خامس جيش في العالم سيتهاوى في صحراء الكويت والعراق، وأن مهيب بغداد من ورق.
 
قبل شهر من التحرير تلقيت رسالة فاكس من الطائف، خاصة جداً وبتوقيع سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح يبلغني فيها بقُرب اللقاء في الكويت المحررة، ورأيت في الرسالة ما لم يره الآخرون. رأيت فيها الثقة واليقين والإيمان، وأن سموه، رحمه الله، استودعني موعد التحرير بدون زمن محدد.
كنت أتلقى رسائل شكر وأخرى لرفع المعنويات، وكذلك رسائل محبة، خاصة من سمو الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح رغما انشغاله في تدريب جيشه للعودة المباركة.
تــُـوفَّي الملك أولاف ملك النرويج، فاتصلت على الفور بالسفارة في لندن واستأذنت السفير غازي الريس أن أنشر إعلانا في صحيفة هي الأكثر انتشارا في النرويج ، ويكون الإعلان باللغتين النرويجية والعربية، وفيه عزاء سمو الشيخ جابر وسمو الشيخ سعد العبد الله، رحمهما الله، والشعب الكويتي إلى الشعب النرويجي الشقيق في وفاة ملكهم الذي كان على رأس المحبوبين في تاريخ النرويج. وافق السفير وطلب مني أن ترسل الصحيفة فاتورة الحساب على السفارة مباشرة في لندن.
 
في 17 يناير 1991 كانت جنازة الملك أولاف، وفي نفس اليوم كانت الضربة الجوية ضد الجيش العراقي المحتل. كانت الكويت هي الدولة الوحيدة في العالم التي، رغم احتلالها، أرسلت وزيراً وسفيراً، لتقديم العزاء. وزير التعليم العالي الدكتور علي الشملان، وسفير الكويت في لندن الأستاذ غازي الريس.
وفي يوم الجنازة صدرت صحيفة VG التي كانت توزع 393 ألف نسخة يومية وفيها إعلان العزاء الكويتي في نصف صفحة. النرويجيون يشعرون بامتنان عجيب للنرويج، ويتبادلون الصحيفة في الشارع، فالعزاء باللغتين كان مدهشاً.
اعتبر الإعلام الرسمي في تونس والجزائر وليبيا والأردن وفلسطين والعراق ولبنان وغيرها كتاباتي نوعاً من الرجس الشيطاني.
 
في نفس شهر الغزو الآثم ( 25 أغسطس 1990) كان هناك مؤتمر الكراهية في أوسلو الذي حضره عدد كبير من قيادات الفكر ومنهم جيمي كارتر وإيلي فيسيل ونادين جورديمير وحنا سنيورة والدكتور منصف المرزوقي والمناضل نيلسون مانديلا والأديب الرئيس فاكلاف هافل وكل أعضاء الحكومة النرويجية ولجنة نوبل للسلام.
ألقى الدكتور المرزوقي كلمة رائعة أمام الجمع وفند أكاذيب الزعم أن الكراهية عربية، ودان الاحتلال العراقي. ثم طلب مني أن ألتقط له بعض الصور مع نيلسون مانديلا.
قمت أيضا باجراء حديث صحفي، على غير عادتي، مع مانديلا، وسألته إن كان بإمكانه السفر إلى بغداد وإقناع صدم حسين بالانسحاب من الكويت. وافق على الفور قائلا بأنه يعرف أن العرب يحبونه. اتصلت بالأستاذ ناصر العثمان المشرف العام على صحيفة ( الشرق ) القطرية وطلبت منه أن يفسح لحديثي مع مانديلا مساحة في الصفحة الأولى. وبعدها أرسلت له بالفاكس الحديث، الذي نشره في اليوم التالي.
 
الدكتور منصف المرزوقي تلقى شتائم واتهامات في تونس بأوامر من زين العابدين بن علي لأنه على حد قول الصحافة التونسية كان في مؤتمر لدعم الصهيونية، والسبب الحقيقي أنه طالب جيش صدام الانسحاب من الكويت مما أشعل غضب الديكتاتور التونسي.
أرسلت له على الجامعة الصور التي تجمعه بنيلسون مانديلا وطار بها فرحاً، لأنها تبطل أباطيل زملائه الأساتذة الذي روجوا الشائعات، فرفع أمامهم الصور مع المناضل جنوب الأفريقي العظيم فبُهت الكاذبون.
أكتفي بهذا القدر من حكايتي مع الكويت والعراق.
 
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
 

شاهد أيضاً

من أوسلو: محمد عبدالمجيد: صاحب السمو الأمير و.. حديث عن المرض!

                                         صاحب السمو الأمير و.. حديث عن المرض!   الرجال العظماء لا يخجلون من الحديث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *